شرح السلم في علم المنطق 5

قال الناظم (رحمه الله):

(فصل في أنواع العلم الحادث)

إِدْرَاكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّرًا عُلِـمْ ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْدِيقٍ وُسِـمْ
وَقَدِّمِ الأَوَّلَ عِنْدَ الوَضْـعِ ... لأَنَّــهُ مُقَــدَّمٌ بِالطّـَبْـعِ
وَالنَّظَرِي مَا احْتَاجَ لِلتَّأَمُّلِ ... وَعَكْسُهُ هُوَ الضَّرُورِيُّ الجَلِي
وَمَا بِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وُصِلْ ... يُدْعَى بِقَوْلٍ شَارِحٍ فَلْـتـَبْتَهِلْ
وَمَا لِتَصْدِيقٍ بِهِ تُوُصِّـلاَ ... بِحُجَّـةٍ يُعْـرَفُ عِنـْدَ العُقَلاَ

قوله: (فصل) لغة: الحاجز بين الشيئين، واصطلاحا: قطعة من الباب تشتمل على طائفة من المسائل، (في أنواع العلم) أي أقسامه وهي: إما تصور وإما تصديق، وكل منهما ينقسم إلى ضروري وإلى نظري، فالأقسام أربعة. وخرج بهذا علم الله تعالى، لأنه لا يتنوع، ولأن العلم مفسرٌ بالإدراك الذي هو وصول النفس إلى المعنى، وذلك يشعر بسبق الجهل تنزه الله عنه، هذا تعريفه عند اللغوييين:
العلم إدراك المعاني مطلقًا ... وحصره في طرفين حققا
وعند الأصوليين: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع إدراكًا جازمًا.
وعند المناطقة: حصول صورة الشيء في الذهن، والشيء هنا بالمعنى اللغوي، فيصدق على الموجود والمعدوم.
وأفضل ما عرف به العلم: أنه صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما.
قوله: (الحادث) تأكيد وإيضاح للمبتدي، لأن لفظ (أنواع) مخرج للعلم القديم، فإنه لا تنوع فيه، والحادث مرادف للمخلوق وهو ضد القديم .
ثم أشار إلى التقسيم الأول للعلم، وهو باعتبار ما يتعلق به، فقال:
(إدراك) العقل أي وصول النفس إلى (مفرد) أي معنى مفرد، كإدراك معنى الإنسان وهو: أنه هو الحيوان الناطق (تصورا علم) مفعولٌ ثانٍ لعلم فيكون المعنى إدراك المفرد (عُلِم) أي سمي في الاصطلاح تصورًا، وذلك صادق بإدراك واحدٍ من السبعة التي هي الموضوع والمحمول والنسبة أو اثنين من الثلاثة أو مجموعها (وَدَرْكُ) اسم مصدر بمعنى إدراك وقوع (نِسْبَةٍ) المراد بالنسبة هنا الحكم، أي إدراك وقوع النسبة أولا وقوعها، وذلك مثل قولك في وقوعها: زيدٌ قائمٌ، أو عدم وقوعها في مثل قولك: ليس زيدٌ قائمًا، وهذه النسبة هي إثبات القيام لزيد كما في المثال الأول، أو نفيه عنه كما في المثال الثاني (بِتَصْدِيقٍ وُسِمْ) أي عُلِّمَ، والتصديق مرادف للحكم الذي هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، سواء جازما أو لا مطابقا للواقع أو لا .
وإيضاح ذلك أن العلم الذي هو مطلق الإدراك إن تعلق بمفرد كالإنسان سمي تصورًا، وإن تعلق بوقوعِ نسبة المركب أو عدمِ وقوعها سمي تصديقًا كما تقدم، وهذا ميلٌ لمذهب الحكماء القائلين بأن التصديق بسيط وهو إدراك وقوع النسبة أو عدم وقوعها فيكون إدراك الموضوع وإدراك المحمول وإدراك النسبة التي هي ارتباط المحمول بالموضوع شروطًا للتصديق.
وإما مذهب الإمام الرازي فالتصديق هو مجموع الإدراكات الأربعة، أعني إدراك الموضوع، وإدراك المحمول، وإدراك النسبة، وإدراك وقوع تلك النسبة أو عدم وقوعها، فتكون الإدراكات الثلاثة الأول شطورًا عنده للتصديق أي أجزاء له، والتحقيق الأول وهو أن التصديق بسيط.ثم قال:
(وقدم) أيها الطالب (الأول) أي التصور على التصديق (عِنْدَ الوَضْعِ) أي في الذكر والكتابة والتعلم والتعليم، كما وقع في المتن من تقديم التصور في التقسيم (لأَنَّهُ) أي التصور (مُقَدَّمٌ) على التصديق (بِالطَّبْعِ) أي بحسب اقتضاء طبيعة التصور، والمراد بالتقدم الطبيعي، هو أن يكون المتقدم يحتاج إليه المتأخر من غير أن يكون المتقدم علةً فيه كتقديمِ الواحد على الاثنين، والاثنين على الثلاثة، ولاشك أن التصور شرطٌ للتصديق أو شطرٌ له، وطبيعة الشرط تقتضي التقدم على المشروط كما أن طبيعة الشطر أي الجزء تقتضي التقدم على الكل، وليس الشرط علةً للمشروط، لأنه لا يلزم من وجُودِه وجُودُه، وكذا الشطر ليس علةً للكل وهو ظاهرٌ، لكن توقف التصديق على التصورات ليس بكنه الحقيقة -أي بالذاتية- بل يكفي حصولها بوجه ما، سواء بكنه حقيقته، أو بأمر صادق عليه.
ثم أشار إلى التقسيم الثاني للعلم، وهو باعتبار الطريق الموصلة إليه، فقال:
(وَ) العلم (النَّظَرِي) بسكون الياء للضرورة، منسوب إلى الفكر والتأمل (مَا) أي الذي (احْتَاجَ) في حصوله (لِلتَّأَمُّلِ) أي فكر ونظر في الدليل.
مثاله للتصور النظري: تصور معنى الروح والعقل، فهذا لا يتم إلا بالفكر والنظر في الدليل الموصل إلى ذلك، فحقيقة الروح عند إمام الحرمين: جسم نوراني لطيف سار في البدن كسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر، أجرى العادة باستمرار حياة الأجسام ما استمرت مشابكة لها، والعقل: نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية.
مثال للتصديق النظري: إدراك أن العالم حادث المحتاج إلى النظر في قولك: العالم متغير، وكل متغيرٌ حادث، ثم قال:
(وَعَكْسُهُ) أي ما لا يحتاج إلى النظر (هو) العلم (الضَّرُورِيُّ) منسوب إلى الضرورة وهي: ما لا يُجوّز العقل خلافه (الجَلِي) أي الظاهر.
مثال التصور الضروري: إدراك حقيقة الوجود، وإدراك معنى الحرارة والبرودة ونحو ذلك مما لا يحتاج إلى فكر ونظر.
مثال التصديق الضروري: الحكم بأن الواحد نصف الإثنين، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.ثم قال:
(وَمَا) أي والقول الذي (بِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وُصِلْ) أي وصل به إلى تصورٍ، كالحد في تصديق الإنسان بقولك: الحيوان الناطق، وكالرسم في تعريفه بقولك: الحيوان الضاحك (يُدْعَى) أي يسمى ذلك القول عند المناطقة (بِقَوْلٍ شَارِحٍ) أما تسميته قولاً فلأن القول هو المركب، وأما تسميته شارحًا فلشرحه الماهية،
المعني: أن القول الذي وصل به إلى تصورٍ المعرف يسمى: بالقول الشارح في اصطلاح المناطقة، وقوله: (فَلْتَبْتَهِلْ) أي تجتهد في الطلب، جملة كمل بها البيت.
(وَمَا) أي والقول الذي (لِتَصْدِيقٍ بِهِ تُوُصِّلاَ) أي توصل به للتصديق، وهو القياس في مثل قولنا: العالم متغير وكل متغيرٍ حادث. (بِحُجَّةٍ) أي بدليل (يُعْرَفُ) يدعى (عِنْدَ العُقَلاَ) أي المناطقة .
والمعنى: أن القول الذي توصل به للتصديق، يسمى عند المناطقة: بالحجة أي الدليل، لأن من تمسك به حَجَّ خصمه أي غلبه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.اهـ