عجائب الحروف

بسم الله الرحمن الرحيم 

والصلاة والسلام على سيد الخلق اجمعين وآله الطاهرين وصحابته الاكملين

وبعد : فهذا موضوع اعجبني فنقلته من احدى الصفحات وهو كما يلي:

الأحرف النورانية:
وهي اربعة عشر حرفا؛ هي: ط،ر،ق،س،م ،ع ك،ا،ل،ن،ص،ي،ح،هـ. يتم التصرف بها في الروحانيات، والعقول والأنفس،والخواطر، والأحاسيس، والهواجس، والخيالات، والأفكار، وكل شيء عقلي.
4.1 الأحرف الظلمانية:
وهي ضد النورانية، وتمثلها بقية الحروف، ويتم التصرف بها في الماديات كالأجسام والنباتات والحيوان، كل شيء حسي. وعن هذا التقسيم يقول الشيخ علي ابن سينا: إن المخلوقات انقسمت إلى قسمين: علوي روحاني، وسفلي جسماني. فالعلوي لطيف ومضيء، والسفلي كثيف ومظلم. والعلوي معقول، والسفلي محسوس، فالعلوي مطلوب ومرغوب، والسفلي طالب راغب. ومن هنا كانت الحروف النورانية علوية، والمظلمة سفلية، وكل هذا ليتمكن العالم الإنساني من القبض على الزِّمَامَيْنِ ويجمع في يده الأمرين فالأحرف الظلمانية؛ بما أنها سفلية؛ فإنها تتضمن الطبائع النارية والترابية والمائية والهوائية.
5.1 الأحرف السعيدة:
وهي الأحرف المهملة، أي التي ليس عليها نقط، وعددها ثلاثة عشر حرفا: ا،د،هـ،و،ح،ط،ك،ل،م،س،ع،ص،ر. وتنقسم إلى الطبائع الأربع:
1- النارية: وأحرفها: ا،هـ،ط،م.
2- الهوائية: وفيها حرفان: ك،س.
3- الترابية: وهي حرفان: و،ص.
6.1 الأحرف النحسة:
وهي الأحرف المنقوطة مثنى وثلاث، وعددها خمسة أحرف: ت،ث،ش،ق،ي. وتقسم إلى الطبائع الثلاث:
1- الهوائية: وفيها حرفان
2- النارية: وفيها حرف واحد.
3- الترابية وفيها حرفان.
ولم تدخل فيها الطبيعة المائية، لأن الأحرف المائية كلها خيرٌ محض.
7.1 الأحرف الممتزجة:
4- وهي الأحرف المنقوطة نقطة واحدة، و عددها عشرة أحرف: ب،ج،خ،ذ،ز،ض،ظ،غ،ف،ن. وتنقسم إلى الطبائع الأربع:
1- النارية: وفيها حرفان: ّ،ف.
2- الهوائية: وفيها ثلاثة أحرف هي: ج،ز،ظ.
3- الترابية: وفيها ثلاثة أحرف هي: ب،ض،ن.
4- المائية: وفيها حرفان:خ،غ.
وبعد معرفة طبائع الحروف وأقسامها وأسرارها الروحانية نلج ‘لى مراتب هذه الأسرار الكامنة فيها.
2- مراتب أسراره:
إن من مراتب أسرار الحرف أن يكون أول الحرف كآخره، بحي يقرأ من اليمين ومن اليسار دون تغيير أو تغير في بنيته الصوتية، كما هو الأمر في الميم والواو والنون. فالواو هو أول عدد تام، فإن له من العدد ستة، وأجزاؤه مثله وهي النصف وهو ثلاثة، والثلث وهو اثنان، والسدسُ وهو واحد، فإذا جمعت هذه كان مثل الكل. فالواو عند أصحاب الحروف يُعطي ما تعطيه الستة من العدديين كالفيثاغوريين القائلين بقيام حركة الكون على الأرقام، فحرف الواو مولَّدٌ عن حرفين شريفين هما الباء والجيم، والباء لها رتبة العقل الأولي لأنه الموجود الثاني أي في الرتبة الثالثة من الوجود،والجيم أول مقامات الفردانية، فإذا ضربت الباء في الجيم كان الخارجَ الواوُ. فالواو والهاء عين (الهو) التي يقال لها الهوية. إن صورة نطق الواو هكذا : (واو) تُعطيك ذلك، فالواو الأولي واو الهوية، والهاء مُدرجة فيها اندراج الخمسة في الستة فأغنت عنها، والواو الأخرى هي واو الكون الذي فاض بأمر (الهُو).
وهكذا، فكل حرف له مراتب أسراره إن على مستوى البنية الصوتية، أو العددية، أو التراتبية الألفبائية، أو الطبائعية، وإن على مستوى الحركة الفلكية في الوجود. فالحرف رمز لفاعلية إلهية.
1.2 قيام الأسماء الإلهية على الحرف :
فأسماء الله تعالى قائمة كلها على الحرف، وكلها قديمة أزلية، تكلم بها جلَّ جلاه بقوله: آلم، حم، عسق، كهيعص، طس، ق، ن، طه، المر، الر. فه قديمة بقدم الذات، وليس قِدمها ما يوجد في ألفاظنا ويُكتب ببياناتنا، ويتصور في خيالنا. وإنما الحروف القدسية هي ما كانت هذه الأمور دالة عليها فقط، فالحروف اللفظية، والبيانية ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري الرقمية)، والفكرية (=الخيالية) هي دالة على تلك الحروف القدسية التي بها الكلام الحق، إذ لولا صُورة الحروف القدسية لما عُرفت صورة الكلام، ولما تميز بعضه من بعض، ولما أُدركت معانيه. فعن الحروف القدسية وُجدت الأسماء الإلهية كلها، وعنها برز الأمر الإلهي بقوله (كن).
فالكلام الإلهي الأزلي هو بحروف قدسية منزهة عن الآلات التي يقع النطق بها، فالحروف واقعة في كلام الله، ولا اعتبار لمن قال إن الكلام الأزلي من غير حرف ولا صوت،لأنه أراد بذلك طرد القائلين بنفي الكلام الأزلي البارز من الذات المقدسة عن قواعدهم؟ (25) والله تعالى هو المتكلم الحي القيوم، له القيومية على الكون، وهذه القيومية يرمز إليها الألف الذي هو قيوم الحروف.
2.2 الألف قيوم الحروف:
ولكن هل الألف حرف؟
إن ابن عربي يرى أنه "ليس من الحروف عند من شم رائحة الحقائق، فقد سمَّته العامة حرفا على سبيل التجوز في العبارة" (26) لا غير، فهو كالواحد الذي ليس بعدد رغم أنه هو أصل الأعداد، يستصحبها في مراتب الظهور، ولكنه ليس منها، فأول الأعداد إنما هو اثنان (27). ويؤسس على هذا أن الأحدية لها الغنى على الإطلاق، وأن الواحد لا يناهض الأحيدية (28)، محذرا في هذا الموضع من الاتحاد لكونه لا يصح، فالذاتان لا تكونان واحدة، وإنما هما واحدان، فهو الواحد في مرتبتين، وضرب الواحد في الواحد لا يُضعّّف، وإنما يتولد منهما كثرة، لأنها ما هو. وعليه فإن ضرب الشيء في نفسه لا يُظهر سوى نفسه، فكل مضروب في نفسه هو هو (29).
ولهذا كان الألف ساريا في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها، وسريان الأحدية في الوجود "فهو قيوم الحروف، وله التنزيل بالقبْلية، وله الاتصال بالبَعدية، فكل شيء يتعلق به، ولا يتعلق هو بشيء، ولا يتعلق الواحد بها، فيُظهرها و لا تُظهره" (30). إن مقامه مقامُ الجمع، وله من الأسماء اسم الله، وله من الصفات القيومية، وله المراتب كلها، وله مجموع الحروف ومراتبها. فهو كالرقم واحد لا يتقيد بمرتبة دون غيرها، يُخفي اسمه في جميع المراتب فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء والراء وجميع الحروف، والمعنى للألف.
إن الألف تُعطي الذات، كما تعطي الباء الصفات. فكما سرى اسم الله في الأسماء كلها على ألفاظها: باء، دال، كاف، واو، ياء. وذلك لأن الألف لما صحبت اللامَ في كلمة (لا) صحِب كلَّ واحد منهما ميلٌ، والميل هو الحركة العِشقية، واللام هي الأعشقُ، وصدق العشق يورث الوصال إلى المعشوق, وهكذا كان عشق اللام للألف. (31)
3.2 ظهور الوجود بالباء:
وإذا كانت الألف تُعطي الذات فإن الباء تُعطي الصفات، لأنها آية الحق النازلة من دائرة الأمر، مقامُها كانت مرتبتها الثانية من الحروف، لكونها تتميز من الألف بأحقية الإيجاد لسبب النقطة التي تحتها وهي الموجودات. فالوجود ظهر بالباء، وبالنقطة تميز العابد من المعبود. وقد سئل الشبلي: أأنت الشبلي؟ فقال: أنا النقطة التي تحت الباء، كان الشيخ أبو مدين يقول: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الباء عليه مكتوبة. فالباء تُصاحب الموجودات في حضرة الحق في الوجود: (بي)، إذ بها قام كل شيء وظهر. ووقع الفرق بينها وبين الألف الواصلة في كون هذه تعطي الذات وهي تعطي الصفات.
وكما أن عين الأعيان هو الإنسان الكامل لأنه نقطة الباء ومحلُّ الفيض وجامعُ الفضائل الإنسانية الربانية، كذلك نقطة الباء في البسملة. فالفاتحة ـ كما علمنا شيوخنا في القرآن ـ كامنة في البسملة، والبسملة في الباء ، والباء في النقطة مُنْدَرجة ومندَرجةٌ، فهي أمُّ الكتاب، و" جميع الكتب الكامنة فيها" (32).
4.2 مجموع حقائق الألفات والباءات والتاءات في الإنسان:
فالإنسان هو مجموعة حروف وجودية، جمعها الله فيه ليكون عينَ الوجود، ومن بينها الألفات والباءات والتاءات. فالألفات: اسمع، وأرى، وأعلم،. والباءات: بي، وبك، وبنا. والتاءات: نفختُ، وسويتُ، وخلقتُ. فصار بمجموع حقائق الألفات والباءات والتاءات معنى تاب عليه، أي آدم رمز البشر. (33)
5.2 معنى الألفية والنقطة:
ومعنى التوبة هنا هو تجلي "الأنا" الإلهية"أنا الله رب العالمين" (34) الجامعة للألفية والنقطة والإعراب. فقد ظهرت الألفية والنقطة والإعراب في القلم والنون واللوح، حيث كان القلم صورة معنى الألفية، والنونُ صورةً معنى النقطة، واللوح صورة معنى الإعراب.
فمعنى الألفية هو محلُّ فعلِ الله المجرد، معنى النقطة هو محل اسمه الأعظم، ومعنى الإعراب هو محل الحرف المجرد. والفعل والاسم والحرف حقيقة عرش الرحمان، "ولو نظرتَ إلى باء (بسم الله) لوجدتَ فيها معنى الألفية والنقطة والإعراب،فإذا نزلت من الباء إلى (ألم ذلك) شاهدتَ وجودَ النقطة في الميم، ووجودَ الإعراب في اللام، ووجودَ الألفية في الألف" (35).
6.2 رمزية الألف والواو والياء:
فالألف مُحتو على عجائب الملكوت وعظمة اللاهوت، فهو يرمز معرفيا للذات الإلهية المنزهة عن الحركة والسكون، وذلك لأن الله تعالى لما خلق اللوح والقلم، قال للقلم: اكتب، فقال: ما أكتب؟ فنظر إليه بعين الهيبة، فقطرت من رأسه قطرة، فنظر إليها بعين الكبرياء، فماعت، فصارت همزة، فنظر إليها بعين العظمة، فامتدت فصارت ألفا، فقال الله عز وجل: لأجعلن هذا الحرف مبتدأ اسمي الأعظم.
ولم تكن نقطة من القلم إلا بعد أن تجلى الله عليه بعين الهيبة، فنظرُ الله إلى تلك النقطة بعين الكبرياء جعلها تتغشَّى من النور الإلهي والجلال الذاتي، فهي لم تظهر إلا بعد تجلي الهيبة وذلك لأجل تزكية الألف، وتفخيم قدره، وتكميل سره (36).
والواو ترمز معرفيا إلى الروح الجبريلي الذي حمل الوحي إلى الأنبياء والرسل، أما الياء فإنها ترمز معرفيا إلى الرسول البشري الذي تلقى الرسالة في عالم التركيب السفلي (37)، فهي الروحُ وهي الذات، وهي التي تنسُبُ كل شيء إلى النفس: بيتي، كتابي، روحي...الخ (38)
إن رمز الحرف يدخل في رمز الاسم والذات، والوجود والمعنى:
وَ لَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي اُلْكَوْنِ إِلاَّهُ
إِنَّ اُلْوُجُودَ لَحَـرْفٌ أَنْتَ مَعْـــــــــنَاهُ
وَ مَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ (39)
اُلْحَرْفُ مَعْنًى، ومَعْنَى اُلْحَرْفِ سَاكِنُهُ
3- حروف أوائل السور:
فمسكنُ المعنى هو الحرف، والحرف حامل للوجود، ومن هنا كانت الحروف المقطَّعة في أوائل السور القرآنية وجودًا للوجود، تعدَّدت الآراء في معناه وفي مشاهدته، لما في فضاءاته من أسرار لا نهائية.
و إن عدد السور القرآنية المبدوءة بحروف مقطَّعة ليبلغ ثلاثين سورة؛ منها ما بلغ عدد الأحرف فيها خمسة حروف، وهو الأقصى ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري كهيعص).ومنها ما لم يتجاوز حرفا واحدا ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري ص،ق،ن). وبذلك يكونُ عدد الحروف في أوائل السور ثمانية وسبعين حرفا بالتكرار، وبعد حذف السور المكررة فيها الأحرف يبقى ستة وثلاثون حرفا، وبعد حذف الأحرف المكررة يكون العدد أربعة عشر حرفا، وهو نصف حروف العربية. وقد خصص ابن عربي لأسرار هذه الحروف المقطَّعة في بدايات السور القرآنية عدة قصائد في ديوانه الكبير؛ منها القصيدة التي يقول فيها:
حُرُوفُ أَوَائِلِ اُلسُّوَرِ يُبَيِّنُهَا تَبَايُنُــــهَا
إِنْ أَخْفَاهَا تَمَاثُلُـــهَا لِتُبْدِيهَا مَسَاكِنُهَا
فَمَا أَخْفَاهُ مُضْمَرُهَا لَقَدْ أَبْدَاهُ كَائِنُهَا (40)
وبما أن الوجود حروف فإنه لا يمكن إدراكه في عمقه العميق إلا بالحروف التي توازيه، فهو ـ كما يرى ابن عربيـ شجرة حروف مستورة لا يتأتى الكشفُ عنها وتفسيرها سوى بانتهاج طرائق التوازي والتناظر والتماثل، فالكون متضافر ومتناغم ومتحول منذ نشأته ورصده يحتاج إلى آليات القدرة على استيعاب كل هذا.
1- نشأة الوجود ومراتبه:
وللاقتراب من هذه النشأة نستعير من ابن عربي ثلاث آليات؛ هي: آلية التجلي الأسمائي، وآلية تجلي الحروف في النفس الرحماني، وآلية النكاح الحروفي.
أـ آلية التجلي الأسمائي: معناها أن السماء الإلهية هي الوسيط الفاصل بين الذات الإلهية وبين العالم، ولذلك لم يكن بنية خطِّية نازلة من الواحد الأحد، وإنما بنية دائرية، لها مركز ومحيط، تمثل الموجودات محيطها، بينما يمثل الله مركزها. فمن مركز الدائرة (=الله) تمتد خطوط لكل نقط المحيط (=العالم)، وهي الأسماء الإلهية التي لا حصر لها، حيث تصدُر الكثرة عن الواحد، وتكون التوجهات الإلهية حاضرة في العالم، ومن ثمة تكون بنية العالم بنيةً روحية في حقيقتها وجوهرها (41)، الأمر الذي يُسقط مفهوم الزمن الخطي لصالح الزمن الإلهي أو الكوني.
ب ـ آلية تجلي الحروف في النفس الرحماني: معناها أن الوجود قد نشأ حروفا في النفس الرحماني، فالذات الإلهية لما أرادت أن ترى نفسها في غير ذاتها، ولأن تُعرف خارج إطار ذاتيتها تنفست حروفا، ووفقا لما في الحديث القدسي" كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقتُ الخلق، فبي عرفوني"، والحبُّ ما هو إلا تنفيس وإخراجٌ لما في الصدر عن طريق التنفس العميق.
فالذات الإلهية تنفست، وعن هذا التنفس تكونت حروف الوجود حرفا حرفا أو مرتبة مرتبة، حتى استوت مراتب الوجود الأساسية وانتظمت كما تنتظم حروف اللغة في النفس الإنساني. ونحن نعلم أن الحروف إذا استوت أمكن تكوين الكلمة، وكذلك مراتب الوجود الأساسية إذا استوت أمكن ظهور الموجودات، أليست الموجودات في النهاية هي كلمات الله؟
وإذن فالوجود نشأ من بعدين أساسيين؛ هما: الحب والرحمة، ولأجل ذلك كان مآله إلى الرحمة.
ج- آلية النكاح الحرفي: معناها أن التوالد يتم عن طريق النكاح الحروفي بين العقل الأول ( = القلم) وبين النفس الكلية ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري اللوح المحفوظ)، حيث انبعثت هذه عن ذاك " كانبعاث حواء من آدم في عالم الأجرام" (42). إذ بالنكاح بين هذين تولدت الطبيعة والهباء، "ثم نزل التوالد في العالم إلى التراب على ترتيب مخصوص" (43).
إن الاشتغال بهذه الآليات مجتمعة هو الذي يمكننا من موازاة مراتب الوجود الأساسية بحروف اللغة، فهذه المراتب يصل عددها إلى ثمانية وعشرين مرتبة أساسية، توازي كل مرتبة منها حرفا من حروف اللغة الصوامت ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري السواكن les consonnes )، أما الصوائت ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري الحركات أو حروف العلة les voyelles) فإنها توازي مراتب المستوى الأول من البرزخ (44). وهذا الربط بين مراتب الوجود العامة وبين حروف اللغة آت من موازاة تجلي النفس الإلهي، من حيث كونُ حروف اللغة تتشكل نُطقا في النفس الإنساني باعتماد أعضاء النطق على أماكن معينة في جهاز النطق نسميها مخارج الحروف، كذلك مراتب الوجود تتشكل في مستوى العماء، وتظهر التجليات المختلفة والدائمة لحقائق الألوهة (45)، على مستوى فعالية الأسماء المقدسة؛ التي تتوجه إلى أعيان مراتب الوجود التي تتعلق بها المعرفة.
وترتبط كل مرتبة وجودية بمرتبة معرفية يدل عليها حرف من الحروف كما سيتضح ذلك، بعد توضيح علاقة الحروف بالمنازل والعناصر.

2- عناصر ومنازل وحروف:
إن اسم "الله" الجامع للأسماء كلها، والفاعلَ في الوجود، مكون من أربعة أحرف: ألف، لامٌ، لاَمٌ، هاء، وأسماء الأنبياء: موسى، وعيسى، ومحمد، مكونة كذلك من أربعة أحرف. وهذا التوافق في عدد أحرف الأسماء المذكورة فيه ترميزٌ إلى أن الله تعالى خلق الكون من أربعة عناصر، ورتبها من خفيف إلى كثيف: النار، الهواء، الماء، التراب، وتضبطها حروف (نَهِمْتُ). فالنار نِسبتُها واحد، والهواء نسبته اثنان، والماء نسبته ثلاثة، والتراب نسبته أربعة، وحيث أن الكون من هذه العناصر فإن ترتيبها تربيعَها هو ستة عشر، وتكعيبها أربعة وستون أي طول وعرض وارتفاع.
وعليه؛ فإن الكون كله لا يزيد عن أربعة وستين موقعا، ولذلك بُني علم الرمل على ستة عشر شكلا ، كل شكل أربعُ طبقات. فهو يحتوي على أربعة وستين طبقة كحالات الكون وطبقاته، كما بُني علم الموسيقى على أربعة أزمنة حتى وصل إلى أربعة وستين في الزمن الموازية لحالات الكون (46).
وإذا كانت الأزمنة الموسيقية موازية لحالات الوجود ومراتبه، فإن الحروف كذلك، فقد جاء عددها على عدد المنازل القمرية وهي ثمانية وعشرون. وجعل العلماء المهتمون بالفلك لهذه الحروف أبعادا صُغرى وأبعادا كبرى، وهي الحساب الأبجدي، حيث بُعد الألف واحدٌ، والجيم ثلاثة...وهكذا. وتتفق الأبعاد الصغرى والكبرى للحروف من الألف إلى الياء، ثم بُعد الكاف الكبير بعشرين، وبعده الصغير بإحدى وعشرين.
وأبعاد الحروف ليست أعدادها، فالحروف فيها العناصر الأربعة كما أشرنا إلى ذلك، معلوم أن وجود النار في الماء غير وجود الماء في النار (47). ولكن هذه العناصر والمنازل لا تشمل حضرات الوجود كلها، وإنما بعضا منها فقط، وذلك لتمايز هذه الحضرات بعضها من بعض. فما هي هذه الحضرات؟
2 – حضرات الوجود:
للوجود خمس حضرات؛ هي:
1 – حضرة عالم الناسوت: وهي مرتبة وجود الأجسام الكثيفة.
2 – حضرة عالم الملكوت: وهي مرتبة فيض الأنوار القدسية، وتمتد من السماء الأولى إلى السابعة. وتشمل عالم المثال وعالم الروحانية وعالم الأفلاك.
3 – حضرة عالم الجبروت: وهي مرتبة فيض الأسرار الإلهية، وتمتد من السماء السابعة إلى الكرسي، وتشمل عالم الأرواح المجردة، أي عالم الملائكة.
4 – حضرة عالم اللاهوت: وهي مرتبة ظهور أسماء الله تعالى وصفاته بأسرارها وفيوضها وتجلياتها.
5 – حضرة الهاهوت: وهي مرتبة البطون الذاتي أو مرتبة العماء، التي لا مطمع لأحد في إدراكها أو نيلها إلا التعلق بها فقط. (48)
وعلى ضوء هذه الحضرات نستطيع أن ندخل إلى دائرة الوجود وموازاة مراتب مستوياتها بمراتب الحروف. فالوجود نشأ حروفا في النفَس الإلهي مرتبة مرتبة ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري حرفا حرفا) حتى استوت وتمت مراتبه الأساسية كاستواء حروف اللغة في النفَس الإنساني.
4 - الموازاة لمراتب الوجود:
وبهذا الاستواء أمكن ظهور الموجودات على أربعة مستويات؛ كل مستوى يتضمن أربعة مراتب:
المستوى الأول: ويسمى بالبرزخ ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري العماء أو الخيال المطلق، أو الهاهوت)، وهو يقع خارج نطاق المعرفة، لأنه تعبير أونطولوجي معرفي عن الذات في وحدتها المطلقة غيبها الأزلي، مراتبه أربعٌ؛ هي:
1- مرتبة الألوهة، وهي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم، والحضرة الجبروتيةُ الفاصلةُ بيم الحق والخلق.
2- مرتبة العماء أو الأعيان الثابتة في العدم، وهي وسيط عالم " الإمكان" الموجودةُ فيه أعيانُ الموجودات بالقوة لا بالفعل.
3- مرتبة حقيقة الحقائق الكلية المعقولة، وهي وسيط معرفي كلي.
4- مرتبة الحقيقة المحمدية أو الإنسان الكامل، وهي وسيط بين الذات الإلهية والعالم الإنساني.
وهذا المستوى بمراتبه الأربع لاَ مُوَازَاةَ بينه وبين الحروف، لأنه يقع فيما وراء الإدراك، بحيث لا يمكن استيعابه إلا من خلال تجلياته في المستويات التالية له.
المستوى الثاني: ويسمى عالم الأمر؛ الذي تحضر فيه آلية النكاح الحروفي بما تتضمنه من خصائص التوالد. وهو يشمل على أربع مراتب – باعتباره وجودا عقليا لا وجودا عينيا – هي:
1- مرتبة القلم الأعلى ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري العقل الأول) المبدع في العماء، وتُعتبر بمثابة همزة وصل بين المستوى الأول والمستوى الثاني، ويوازيها على المستوى الأونطلوجي حرف الهمزة، أما الاسم الإلهي المتوجِّه إلى إيجادها فهو : البديع (49).
2- مرتبة اللوح المحفوظ ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري النفس الكلية)، ويوازيها على المستوى الأونطلوجي حرف الهاء، وتوجَّه إلى إيجادها الاسم الإلهي: الباعث (50).
3- مرتبة الطبيعة الكلية ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري الهباء)، وهي ثمرة النكاح بين القلم واللوح ، ويوازيها أونطولوجيا حرف العين، وتوجَّه إلى إيجادها الاسم الإلهي: الباطن (51).
5- مرتبة الجوهر الهبائي، ويوازيها أونطولوجيا حرف الحاء، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي: الآخِر. وتتفرع هذه المرتبة إلى فرعين: فرع (الجسم الكل) الذي يمثل آخر المعقولات وأول الموجودات في المستوى الثالث الذي هو عالم الخلق، ويوازيه أونطولوجيا حرف الغين، وتوجَّه إلى إيجاده الاسم الإلهي: الظاهر (52)، وفرع (الشكل)، ويوازيه أونطولوجيا حرف الخاء، وتوجَّه إلى إيجاده الاسم الإلهي: الحكيم (53). فالجسم الكل هنا يمثل المَجلى الظهوري الأولَ في الجوهر الهبائي الذي يُجسد آخر المراتب المعقولة. والجدول التالي يُبين كل مرتبة من مراتب المستوى الثاني من الوجود، والحرفَ الذي يوازيها، والاسمَ الإلهي الذي يتوجه إلى إيجادها:
الاسم الإلهي
المتوجه إلى إيجادها
المرتبة التي يوازيها
الحرف اللغوي
الرقم الترتيبي
للحرف والمرتبة
البديع
الباعث
الباطن
الآخِر
الظاهر
الحكيم
القلم الأعلى
اللوح المحفوظ
الطبيعة الكلية
الجوهر الهبائي
الجسم الكل
الشكل
الهمزة
الهاء
العين
الحاء
الغين
الخاء
1
2
3
4
5
6
المستوى الثالث: ويسمى عالم الخلق، وهو يتضمن أربع مراتب؛ هي:
1- مرتبة العرش التي هي أول عالم الوجود الروحي المحيط بجميع الموجودات، ويوازيها أونطولوجيا حرف القاف، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي: المحيط.
2- مرتبة الكرسي التي تمثل بداية عالم التعدد في عالم الروحانيات، ويازيها أونطولوجيا حرف الكاف، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي:الشكور.

3- مرتبة فَلَكِ البروج التي تمثل الكثرةَ والتعدد، وعلة كل التغيرات التي تحدث في عالم الكون والفساد وعلى المستويين: الروحي والطبيعي، ويوازيها أونطولوجيا حرف الجيم، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي: الغني.
4- مرتبة كوكب المنازل، ويوازيها أونطولوجيا حرف الشين الذي يحمل دلالة صوتية خاصة هي التفشي والخروج والانتشار، مما يجعل من دلالته هاته حالة توازي حالة تَحول المُضمر إلى مُعْلَنٍ في الأمر الإلهي، من حيث صلتُه بعالم الكون والفساد، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو: المُقَدِّرُ. والجدول يوضح كل هذا:

الاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها
المرتبة التي يوازيها
الحرف اللغوي
الحرف الترتيبي للحرف والمرتبة
المحيط
الشكور
الغني
المُقدر
العرش
الكرسي
فلك البروج
كوكب المنازل
القاف
الكاف
الجيم
الشين
7
8
9
10
المستوى الرابع: ويُسمى عالم الشهادة أو عالم الكون والفساد، وهو يتضمن كذلك أربع مراتب؛ هي:
1- مرتبة الأفلاك السبعة المتحركة التي تُسبب حركتها التغير والتحول في العالم المشهود. وهذه الأفلاك كلها مقدرة في فلك المنازل، وتوازيها أونطولوجيا – بحسب أسمائها وعددها – الحروف التالية: الباء لـ (زحل، السماء الأولى، كيوان) والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو: الرب. والضاد لـ (المشتري، السماء الثانية)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو العليم. واللام لـ(المريخ، السماء الثالثة)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو القاهر. والنون لـ (الشمس، السماء الرابعة)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو: النور. والراء لـ( الزهرة، السماء الخامسة)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو: المصور. والطاء لـ (عطارد، السماء السادسة)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو: المُحصي. والدال لـ (القمر، السماء السابعة)، والاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها هو المبين. وهذه المرتبة يليها عالم الكون والاستحالة الفعلي (54)
2- مرتبة العناصر الطبيعية الأربعة من نار وهواء وماء وتراب، ولكل منها فلك يوازيه حرف من حروف اللغة، ويتوجه إلى إيجاده اسم إلهي خاص، هكذا: فالتاء توازي أونطولوجيا فلك النار الذي توجه إلى إيجاده الاسم الإلهي : القابض، والزاي يوازي أونطولوجيا فلك الهواء الذي توجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: الحي. والسين يوازي أونطولوجيا فلك الماء الذي توجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: المُحيي. والصاد يوازي أنطولوجيا فلك التراب الذي توجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: المُميتُ.
وليس معنى هذا أننا نتحدث عن درجات يعلو بعضها فوق بعض أو يسبقه في الجود، بل معناه توضيح مراتب روحية، إذ العناصر هي الطبائع الأصلية التي تشكلت منها أجسامُ كل الكواكب والأفلاك وأجسام كل الكائنات بنسبٍ مختلفة من حيث الوجود. (55)
3- مرتبة الحياة التي تمثل الموجودات الأصلية من معدن ونبات وحيوان، وتوازيها أونطولوجيا حروف خاصةٌ، وتوجهت إلى إيجادها الاسم الإلهي: العزيز. والنبات يوازيه حرف الظاء، وتوجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: الرازق. والحيوان يوازيه حرف الذال، وتوجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: المُذِلُّ.
4- مرتبة الكائن العاقل التي تمثل الملائكة والجن والبشر، وتوازيها أسماء إلهية خاصة كذلك، وتوجهه إلى إيجادها الاسم الإلهي: القوي. والجن يوازيها حرف الياء، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي: اللطيف. والبشر يوازيه حرف الميم، وتوجه إلى إيجاده الاسم الإلهي: الجامع.
· مرتبة المراتب: وهي المرتبة الأسية التي ترتبت على أساسها المراتب كلها، ويوازيها أونطولوجيا حرف الواو، وتوجه إلى إيجادها الاسم الإلهي: الرفيع الدرجات. فهي من هذه الناحية تُعتبر الثامنة والعشرين في مراتب الوجود، ما يوازيها من الحروف والأسماء الإلهية التي توجهت إلى إيجادها، كما هو موضح في الجدول:
الاسم الإلهي المتوجه إلى إيجادها
المرتبة التي يوازيها
الحرف اللغوي
الرقم الترتيبي
للحرف والمرتبة
الرب
العليم
القاهر
النور
المصور
المُحصي
المُبين
القابض
الحي
المحيي
المميت
العزيز
الرازق
المذل
القوي
اللطيف
الجامع
الرفيع الدرجات
زحل، السماء الأولى، كيوان
المشتري، السماء الثانية
المريخ، السماء الثالثة
الشمس، السماء الرابعة
الزهرة، السماء الخامسة
عطارد، السماء السادسة
القمر، السماء السابعة
فلك النار
فلك الهواء
فلك الماء
فلك التراب
المعدن
النبات
الحيوان
الملائكة
الجن
البشر
مرتبة المراتب
الياء
الضاد
اللام
النون
الراء
الطاء
الدال
التاء
الزاي
السين
الصاد
الظاء
الثاء
الذال
الفاء
الباء
الميم
الواو
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
إن الموجودات العينية تتكون من تآلف بعض مراتب الوجود، وتتوازى مع حروف اللغة التي توازي مراتب الوجود. ومن هنا تكون الموجودات حروف الله وكلماته التي توازيها حروف اللغة وكلماتها، وتكون بالتالي الموجودات تساوي اللغة، وكذلك الوجود. وإذن، فإن الوجود هو اللغة في عمقها الكينوني،فالكلمات التي تتألف من الحروف بالمعنى الوجودي واللغوي على السواء لا حصر لها، وكذلك الوجود، لأن "الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفِد، وبها يظهر سلطانها الذي لا يَبعد، وهي مركبات لأنها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يُعَبَّر عنه باللسان العربي بلفظة "كن" فلا يتكون عنها إلا مركب من روح وصورة، فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات، (...) والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالمُ هي نفس الرحمان، ولهذا عبر عنها بالكلمات" (56).
هكذا تكون مراتب الوجود البسيطة ثمانية وعشرين مرتبة مثل عدد حروف اللغة، أليس في هذا من الأسرار ما يجعل اللغةَ والوجودَ جسدًا روحيا يتألق فيع النبض قصدَ الترقي الروحي بالإنسان؟(57).
ارتهان الترقي الروحي بِتَشَرُّبِهِ:
وذلك لأجل أن يكون للوجود حضورٌ في حضارة المعنى،فالعالم معنى، وهل ثمة معنى للعالم دون إنسان؟وهل ثمة معنى للإنسان دون رقي روحي؟ .إن العالم هو اعتراف متبادل بالوجود بين الله والإنسان عبر العقل البصائري والذوق، وهذا الاعتراف يمر عبر التصوف كجسر إلهي.
والتصوف شفوف روحي، وتمردٌ ذوقي في مواجهة السماكة العقلانية الواحدية البُعد، التي تحصر الأمر في نعتٍ واحدٍ، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر. وكذلك في مواجهة الطقوسية التخديرية المساندة لإيديولوجيات تبتُر وجدان الإنسان، وتُبعده عن جذره الروحي، فكل القوى يمكن لها أن تكمن داخل الإنسان، لأنها ملكٌ للروح، والروح مستعدة لأن تمنح العقل تلك القوى جزئية كانت أو كلية، بحسب مقدرة العقل على ما يستطيع قَبوله من نور المعرفة المُشِعِّ من الحروف. فكما أن الشمس تشع بضوئها على القمر فيعكس هذا الضوء إلى الأرض لينيرها، كذلك الحروف فهي جسد روحي مضيء، يُمد العقل بنوره، والعقل بدوره يعكس هذا النور على الجسد المادي.
ومن الطبيعي أن العقل لا يستطيع التحكم دائما في النور المنبعث من هذا الجسد الروحي، ولذا نجده غالبا لا يُعبر عن شعوره، لأن سرَّ الحرف كجسد روحي انفلت منه. فالترقية الروحية ما هي إلا امتلاكُ العقل وتشر|ُبه لسر هذا الجسد الروحي المسمى بالحرف، وتعبيرٌ عن الضوء المشعشع فيه. فحين يكون العقل متحدًا به ترتفع عنه الحجبُ،ويصبح على اتصال بما وراء الوجدان. إن وظيفة العقل ليست هي التعقل فحسب، وإنما هناك وظائفُ أخرى له أرقى من ذلك، تتعلق بما فوق الوجدان، وبما هو لامرئي وغير محسوس، وهذا لا يتأتى إلا بامتلاك سرِّ الحرف الذي يفتح لنا أبواب المعرفة اللانهائية، المعرفة اللدنية التي تجعلنا نرى أنفسنا قد تغيرت فعلا في المظاهر الباطنة والظاهرة، كما تجعلنا نرى كل شيء يحيط بنا قد ابتدأ في التغير، وصار طوعا لمشيئتنا، وطبقا للحالة التي يوجد فيها، بحيث لا تكون هناك قوة تتغلب على إرادتنا، لأن النور الإلهي الحقيقي المتضمَّن في الحروف قد اخترقنا، فصار لنا عقل بصائري حر، وغيرُ مقيد، ترقَّى روحيا حتى صارت له القدرة على رؤية ما وراء الطبيعة، ومُنحت له القوة على التكلم بلغات الله، والتصرفِ بمشيئته طبقا للحديث القدسي: "عبدي أطعني أَجْعَلْكَ ربانيا، تقول للشيء كن فيكون".
فإذا بلغ الإنسانُ هذا المبلغ يكون قد نكحَ بحقٍّ الحروف كلها، وجلس على عرش المعرفة اللانهائية (58)، فبالحرف تحقَّقَ الوجود اللفظي والجسدي للكون، واستُغور محجوبه ومجهوله. فصورة الجسد الكوني مرآة لصورة الجسد الحرفي. إن الحرف هو أسُّ الخلق والتكوين، وهو ألف البدء، منه فاضت العوالمُ صغراها وكُبراها(59)، وهو الدلالة الكُلاَّنية على أن العلاقة بين الله والإنسان، وبينهما وبين العالم ذاتُ منحًى دلالي أشبهَ بعلاقة الحرف بالمعنى. (60)