بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذه قصيدة بليغة في رثاء الشاعر السوسي النابغة سيدي عبد الله العاطفي التتكي، للشاعر الاديب؛ أحمد بن محمد الشبي الازاريفي السوسي.
قال من بحر البسيط:
لاَ تَسْألْ الْيَومَ عَنْ شِعْرٍ فَقَدْ نَـــضَبَا ... وَغَالَهُ مَا دَهَى الأقْلامَ والكُـــــتُـــــبَــــا
وَلاَ عَن النَّغمِ الْـمَعْصُور مِـــنْ أَلَـــمٍ ... ولا عَن النَّجمِ فِي آفاقنَا غَـــــــــربَـــــا
لاَ تَسألْ الْيَومَ عَنْ رَوْضٍ وَبــلُـبـلِــهِ ... فَالصَّوْتُ مُخْتَنِقٌ، واللَّحْنُ قَدْ ذَهَــــبَـــا
وَمرَّ بَيْنَ الْغُصُونِ الْخُضْرِ مَائِــــلَــةً ... رَيْبُ الْمَنُونِ، فَأضْحَى الرَّوضُ مُسْتَلَبَا
قَضَى الْهَزارُ الذِي يَشْدُو بِـــآلَــــتِـــهِ ... يَبُثُّ فِي الرِّيحِ مِن أَلْحَانِهِ طَــــــرَبَــــا
فَيَسْحَرُ السَّمْعَ بِالأوْتَارِ يَــعــــزِفُــــهَا ... وَيَبْعَثُ الشَّوْقَ فِي الأَحْنَاءِ وَالْوَصَــبَــا
يَشْدُو ـ وَآوِنَةً يُشْجِي بِـــــــقَـــــافِـــيَةٍٍ ... طَوْراً يُنَاجِي، وَحِيناً يَقذِفُ اللَّـــهَـــبَــا
يَا سَيِّدَ القَولِ، جِئْتَ الدَّهرَ فِي خَرَفٍ ... والْفَضْلُ آذَنَ بِالتَّرْحَال مُـــنْــسَــحِــبَــا
فَمَا وَجَدْتَ عَلَى عِلاَّتِهِ "هَـــرِمــــاً" ... ولا لَقِيتَ "بَنِي حَمْدَانَ" فِي "حَلَــبَـــا"
تُرَدِّدُ الْقَولَ في الأَقْـــــــوَامِ نَائِـــمَـــةً ... وَتَمْدَحُ النَّذْلَ مَا أجْدَى وَلاَ وَهَـــــبَــــا
وَصُغْتَ مِنْ قَبَسِ الأشْعارِ مُـــنْــتخِباً ... رَوائِعاً، لاَمَسَتْ فِي أُفْقِهَا الـــسُّــــحُــبَا
وَصِرْتَ فِي بُؤْسكَ الْمُزْرِي تُعَالِجُـهُ ... "بَيْتاً" يُدِرُّ عليْكَ الفَقرَ والــسَّـــــغَـــبَــا
فَمَا وَهَنْتَ لِمَا تَلقَى، وَلاَ تَـــعِـــبـــتْ ... يَداكَ وهْيَ تَخُطُّ الرَّجْزَ والْـــخَـــــبــبَـا
مِنْ كُلِّ لَوْنٍٍ أجَدتَّ الْعَزْفَ مُــنْـفَرِداً ... تَدْنُو بِهِ لِضِفَافِ الْوَحْيِ مُـــنْــتَـسِــبَـــــا
بَسَاطَةٌ وَرُؤىً فِي الأرْضِ تَـأْخُــذُهَا ... فَإنْ نَظَمْتَ بِهَا أسْمَعْتَنَا الْعَــــــــجـــبَــا
يُجِيبُكَ الشعرُ مِنْ عَليائِهِ فَـــتَــــــرَى ... "ضَرْباً" يُسَارعُ و"الأَوتَادَ" وَ"السَّبَبَا"
أَرْسَلتَهُ لِتُطيحَ الْمُـــدَّعِــيــنَ سُـــــدىً ... وَتَكْشِفَ الزَّيفَ والأَصْنَامَ والنُّـــصُـبَــا
مُقَارِعاً كُلَّ ذِي رَأْيٍ يَــضِــــــيـرُ بِهِ ... شَرعَ الإلهِ، ويَهْوَى الْخُلْفَ وَالشَّــغَــبَا
قَوَارِِعُ الهجْوِِ فِي الأَوْغَادِ تَــسْكُـبُــها ... بِكُلِ أذْنٍ ولاَ تَخشَى لَهَا عَــــقِــــــبَــــا
فَكَمْ جَدَعْتَ لَهُمْ أنْفاً بـــــقَـــــافِــــيـــةٍ ... أَوْدَتْ بباطِلهمْ بَدْءاً وَمُـــــنــــــقــــلــبَـا
يَهْجُو لِئَاماً وَكانَ الصِّــــــدْقُ رَائِــدَهُ ... وَلوْ تَكلَّفَ مَدْحاً فِيهمُ كَــــــــــذَبَـــــــــا
أَلفَى مَخازِيَ لا تَخفَى فأَشْــــهَــــرَهَا ... فَهلْ يُلامُ عَلَى الإنْصَافِ مَنْ كَــــتــبَــا
تَرَجَّلَ الشَّهمُ لَمْ يَنْزلْ بِــــســـاحـــتِـهِ ... عَيْبٌ ولَمْ يكُ لِلأَوساخِ مُـــحْـــتَــــقِــبَــا
وَليسَ فِي يده إلاَّ قَــــصـــائــــــــــدُهُ ... إذا تَبجَّحَ بَغْلٌ يَلبَـسُ الــــــذََّهَــــــــبَـــــا
مَشتْ إليهِِ الْمَنُــونُ الْحُــمْــرُ سَالـبـةً ... تِلكَ الْمكارمَ والأخْــــــلاقَ والأدبَـــــــا
يَكفيهِ مُعتقَـــدٌ صُــلْــــبٌ، تُـــؤيـــــدهُ ... حَمَاسَةٌ أنْ يَعودَ الشَّــــرعُ مُــنْــتَــصِبَا
وغَبْرةٌ تَسْحَــــقُ الأعْصابَ مُـــثْـقـلةٌ ... بِالْحُلمِ أنْ نَستعيدَ الــعـــزَّ وَالْـــغَـضَبَـا
يأسَى عَلى اليُتمِ والأوجاعِ مُشتَكيـــاً ... إذَا رَأى مَنْ شَكَى أوْ نَــــاحَ أَوْ تَــعِـبَا
مَرارةٌ صَحبتْ أَعْمَاقَ مُــهــجـتِـــــهِ ... وأَسْقَمتْ قَلبَهُ واللَّحْمَ وَالْــعَــــصَــــبَـــا
حتَّى تَهاوَى عَلى الضَّراءِ تَنْهَـشُــــهُ ... جِسْماً رَقيقاً هَوَى مِـــنْ دُونِ مَا طَلَبَا
وَكانَ يَومُك أدنَى مــــنْ مَطامِــحِــهِ ... وَلوْ صَبَرتَ رَأيتَ الْفجْرَ مُـــقْــتـــربَا
فِي كُلِّ رُكنٍ بِهذَا الْغَربِ أُغــنـيـــــةٌ ... تَشْدُو بِعَدلٍ يَفُكُّ القَيْدَ وَالْـــحُـــجُـــبَــا
يا صَاحِبِي ـ وَجلالُ الْمَوتِ يُرعبُنِي ... والْبعدُ يَحرِقُ فِي الأحْشاءِ مُلْـــتَــهِـبَا
خَسِرتُ فيكَ صَديقاً صادِقــاً وأخـــاً ... إذَا تَغيرَ من تَلقَى ومَنْ صُــــحِـــبَــــا
خُضْنَا مَعاركَ لَمْ نأسَفْ لآِخِـرهَــــا ... أَنصفتَ فيها العُلاَ والــصـدقَ والْحِقَبَا
مَواقفٌ صَنَعتْ أعْداءَنا فَــــــغـــدَتْ ... تَبنِي لأنفُسها مِن حَولِنا قُــــــبَــــــبَـــا
منْ كلِّ أرْعَنَ لاَ فِي الْمجْد ِهِمَّتُـــهُ ... فإن بدا طَمَعٌ أغْراهُ فاحْـــــــتَـــــلَـــبَــا
فَمَا الْتَفَتْنَا إلَـــى الأرْذَالِ نَابِــحَـــــةً ... وَلَمْ نُقَدِّمْ ـ علَى إِغْـــــرائــهِ ـ الذَّنَــبَـا
مَا كانَ أرْوَعَ أن تَنأى بنَفْسكَ عَنْ ... دُنياهمُ، فـــــتُـــــلاقِي اللهََ وَالأَرَبَــــــــا
وَكانَ أوْحشَ لِي بُقْيَـــايَ بَينــهـــــمُ ... أَلْقَى الْهَوانَ وَهمْ منْ فَــــوقِــنَــا رُتَـبَا
إذَا عَلوْا سَقَطُوا فِي الْوزنِ مُمْتَحِـناً ... وبِالْمبادِي سَمَا منْ شَــــــاءَ أوْ رَسَبَا
اللهُ لِي منْ غريبٍ لَمْ يَجدْ عمـــــلاً ... ولاَ "وظِيفا" وَلاَ الْمِحْرابَ والسَّــبَــبَا
عَارٌ على الْمَكرماتِ الغرِّ مَهـزلــةٌ ... أَنِّي أَظلُّ شَريدَ الأرضِ مُــضْــطَــربَا
سَيَلْعَنُ الدَّهْرُ هَذَا الْحَيْفَ مُمْتعِــضاً ... أنْ يَأخذَ الْبُومُ دَوْرَ الدِّيكِ مُــحْــتَـسِـبَا
لَعَلَّ لِي بِمَقَامِ الشَّمسِ تَسْـــــلِــيـــــةً ... لاَ نَمْلكُ الرَّحلَ والأصْحابَ وَالــطُّنُبَا
نُلامِسُ الأوجَ لاَ نَدْنُو لِمَهْــبِــطِــهـمْ ... غَزالَةٌ وَأنَا الرَّاعِي لَـــهَـــــــا دَأَبَـــــا
إذَا شَكَوْتُ الْوَنَى أَوْمَتْ مُــوبِّخَــــةً ... وإنْ شَكَتْ وَحْدةً هَرْولتُ مُصْطحِــبَا
كِلاَ الغَريَبيْنِ لا يَلقَى بِمَعــــشَـــــرهِ ... إلاَّ الأذَى مُحْدِِقاً والكَيْدَ مُـــنْــتَــشِــبَـا
عَبْدَ الإلَه ـ علَى طُولِ الْبِعَـادِ بِنَــــا ... يَبقَى الْوِدَادُ ـ كمَا تَدْريهِ ـ مُـــنْــتَـجَبَا
يَعِزُّ أنْ يَنْطَفِي نَجْـــــمٌ يُسَـامِــــرُنَـا ... فِي الدَّاجيَاتِ، وَيُهْدِى الأُنْسَ مُنْسَكِبَـا
فَالآنَ عَادَ الثَّرَى منْ بعد غُرْبتِــــهِ ... يَحْوِي بِمِثْلكَ فِي أَحْشَائِهِ الشُّــهُــــبَــا
مَضَيْتَ تَتْركُ عَصْرًا قاسيـاً، وَنَدىً ... أَقْوَتْ مَنْازلُهُ، والدينُ مُـــغْـــتَــــرِبَــا
لَوْلاَ أيَادٍ رَعتْ أيــــامَ عِلَّــتِـــــــــهِ ... تَحُوطهُ وتَصُدُّ الْمَـــــوتَ والـــعَــطَـبَا
إذَا تَرَنَّحَ منْ أَنيــــابِ قاتِــلِــــــــــهِ ... رَأَى الصَّديقَ علَى أوجـــاعِـــه حَدِبَا
"إِفْرَانُ" نِعمَ النَّدَى والعهْدُ تَصنَعُـه ... أنْعمْ بِهَا خُلَّةً أنعمْ بِهَا نَـــــــسَـــــبَـــا
تَذُودُ عنْ خِدْنِكَ الضَّراءَ مُحْتشِـــداً ... فَصِرتَ منْ حَولِه قُربَى وَصِرْتَ أَبَا
مَجْدٌ مَدَدْتَ لهُ عَزْماً فَفُـــزْتَ بــــهِ ... مَا كانَ غَيرُك أنْ يَــــجْــنِـي ويَقْتَرِبَا
أَخِي تُبَادلُ هذَا السُّوسَ عاطِـــفــــةً ... أسْمَعتَهُ نَغَماً سَـــاقـــيــتَــه حَـــبَـــبَـا
فَإذْ صُرعتَ فَفِي حِضْنَيْـــــه مُتَّــكَأٌ ... يَحْنُو كَوالدةٍ يَنْعِيكَ مُـــنْـــتَـــحِــــبَـــا
مُودِّعاً أَسِفاً تَهفُو مَــــــرابــــعُــــــهُ ... أنْ تلْثمَ النعشَ والأَكفانَ والْــخَــشَـبَـا
آوَاك ربُّكَ فِي النَّعمَاءِ مُحْتَــفِـــــــلاً ... تُضَاحِكُ الْحُورَ فِي الْجَنَّاتِ والْعُرُبَـا
يُنْسيكَ ما رُمْتَ من أطماعِ خَادِعَةٍ ... دُنْيَا تُقَدِّمنا لِلْهُلْكِ مُــــحْــــتَـــطَــــبَــا
خُذْهَا رِثاءً لوْ أنَّ "الْبُحْتُرِيَّ" رَأَى ... بَدِيعَهَا لَتَمَنَّى مِــــثْـــلَــــهَـــا رَغَــبَــا
تَحيةً لَكَ تَحْتَ الأَرضِ سَائِـــلَــــــةً ... رُحْمَى لِرَمْسِكَ لاَ تَخْشَى بِهَا نَصَـبَا